فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الزمخشري: اتبعوك أول الرأي، أو ظاهر الرأي، وانتصابه على الظرف أصله وقت حدوث أول أمرهم أو وقت حدوث ظاهر رأيهم، فحذف ذلك، وأقيم المضاف إليه مقامه، أرادوا أنّ اتباعهم لك إنما هو شيء عنّ لهم بديهة من غير روية ونظر انتهى.
وكونه منصوبًا على الظرف هو قول أبيّ على في الحجة، وإنما حمله على الظرف وليس بزمان ولا مكان، لأنّ في مقدرة فيه أي: في ظاهر الأمر، أو في أول الأمر.
وعلى هذين التقديرين أعني أنْ يكون العامل فيه نراك، أو اتبعك يقتضي أن لا يجوز ذلك، لأنّ ما بعد إلا لا يكون معمولًا لما قبلها إلا إن كان مستثنى منه نحو: قام إلا زيدًا القوم، أو مستثنى نحو: جاء القوم إلا زيدًا، أو تابعًا للمستثنى منه نحو: ما جاءني أحد إلا زيد أخبرني عمرو، وبادئ الرأي ليس واحدًا من هذه الثلاثة.
وأجيب بأنه ظرف، أو كالظرف مثل جهد رأي أنك ذاهب، أي أنك ذاهب في جهد رأي، والظروف يتسع فيها.
وإذا كان العامل أراذلنا فمعناه الذين هم أراذلنا بأدل نظر فيهم، وببادئ الرأي يعلم ذلك منهم.
وقيل: بادي الرأي نعت لقوله: بشرًا.
وقيل: انتصب حالًا من ضمير نوح في اتبعك، أي: وأنت مكشوف الرأي لا حصافة لك.
وقيل: انتصب على النداء لنوح أي: يا بادي الرأي، أي ما في نفسك من الرأي ظاهر لكل أحد، قالوا: ذلك تعجيزًا له.
وقيل: انتصب على المصدر، وجاء الظرف والمصدر على فاعل، وليس بالقياس.
فالرأي هنا إما من رؤية العين، وإما من الفكر.
قال الزمخشري: وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم في الأسباب الدنيوية، لأنهم كانوا جهالًا ما كانوا يعلمون إلا ظاهرًا من الحياة الدنيا، فكان الأشرف عندهم من له جاه ومال انتهى.
وظاهر الخطاب في لكم شامل لنوح ومن اتبعه، والمعنى: ليس لكم علينا زيادة في مال، ولا نسب، ولا دين.
وقال ابن عباس: في الخلق والخلق، وقيل: بكثرة الملك والملك، وقيل: بمتابعتكم نوحًا ومخالفتكم لنا، وقيل: من شرف يؤهلكم للنبوّة، وقال الكلبي: نظنكم نتيقنكم، وقال مقاتل: نحسبكم أي في دعوى نوح وتصديقكم، وقال صاحب العتيان: بل نظنكم كاذبين توسلًا إلى الرئاسة والشهرة. اهـ.

.قال أبو السعود:

ولما بيَّن من فاتحة السورةِ الكريمةِ إلى هذا المقامِ أنها كتابٌ محكمُ الآياتِ مفصَّلُها نازلٌ في شأن التوحيدِ وتركِ عبادةِ غيرِ الله سبحانه وأن الذي أنزل عليه نذيرٌ وبشيرٌ من جهته تعالى وقرر في تضاعيف ذلك ما له مدخَلٌ في تحقيق هذا المرامِ من الترغيب والترهيبِ وإلزامِ المعاندين بما يقارنه من الشواهد الحقةِ الدالةِ على كونه من عند الله تعالى وتسليةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم مما عراه من ضيق الصدرِ العارضِ له من اقتراحاتهم الشنيعةِ وتكذيبِهم له وتسميتِهم للقرآن تارةً سحرًا وأخرى مفترًى وتثبيتِه عليه الصلاة والسلام والمؤمنين على التمسك به والعملِ بموجبه على أبلغِ وجهٍ وأبدعِ أسلوبٍ شَرع في تحقيق ما ذُكر وتقريرِه بذكر قصصِ الأنبياءِ صلواتُ الله عليهم أجمعين المشتملةِ على ما اشتمل عليه فاتحةُ السورةِ الكريمةِ ليتأكد ذلك بطريقين:
(أحدُهما) أن ما أُمر به من التوحيد وفروعِه مما أطبق عليه الأنبياءُ قاطبةً.
(والثاني) أن ذلك إنما علِمه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي فلا يبقى في حقيته كلامٌ أصلًا وليتسلّى بما يشاهده من معاناة الرسلِ قبله من أممهم ومقاساتِهم الشدائدَ من جهتهم فقيل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ}
الواوُ ابتدائيةٌ واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ وحرفُه الباءُ لا الواو كما في سورة الأعراف لئلا يجتمعَ واوان، ولا يكاد تُطلق هذه اللامُ إلا مع قد لأنها مظِنّةُ التوقعِ وأن المخاطبَ إذا سمِعها توقع وقوعَ ما صُدّر بها، ونوحٌ هو ابن لمك بن متوشلخ بن إدريسَ عليهما السلام وهو أولُ نبي بُعث بعده. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بعث عليه الصلاة والسلام على رأس أربعين من عُمره ولبث يدعو قومَه تسعمائة وخمسين سنةً وعاش بعد الطوفانِ ستين سنةً وكان عمرُه ألفًا وخمسين سنة، وقال مقاتل: بعث وهو ابنُ مائةِ سنةٍ، وقيل: وهو ابنُ خمسين سنة، وقيل: وهو ابنُ مائتين وخمسين سنةً ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة: {إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ} بالكسر على إرادة القولِ أي فقال أو قائلا، وقرأ ابن كثير، وأبو عمْروٍ، والكسائيُّ، بالفتح على إضمار حرف الجرِّ أي أرسلناه ملتبسًا بذلك الكلامِ وهو إني لكم نذيرٌ بالكسر فلما اتصل به الجارُّ فُتح كما فُتح في كأن والمعنى على الكسر وهو قولك: إن زيدًا كالأسد واقتُصر على ذكر كونِه عليه الصلاة والسلام نذيرًا لا لأن دعوتَه عليه الصلاة والسلام كانت بطريق الإنذارِ فقط، ألا يُرى إلى قوله تعالى: {فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مُّدْرَارًا} إلخ، بل لأنهم لم يغتنموا مغانمَ إبشارِه عليه الصلاة والسلام: {مُّبِينٌ} أبيِّن لكم موجباتِ العذابِ ووجهَ الخلاصِ منه لأن الإنذارَ إعلامُ المحذورِ لا لمجرد التخويفِ والإزعاجِ بل للحذر منه فيتعلق صفتُه بكلا وصفَيه.
{أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} أي بألا تعبدوا على أنّ أنْ مصدريةٌ والباءُ متعلقةٌ بأرسلنا ولا ناهية أي أرسلناه ملتبسًا بنهيهم عن الشرك إلا أنه وُسّط بينهما بيانُ بعضِ أوصافِه وأحوالِه عليه الصلاة والسلام وهو كونه نذيرًا مبينًا ليكون أدخلَ في القَبول ولم يُفعلْ ذلك في صدر السورة لئلا يُفرَّقَ بين الكتاب ومضمونِه بما ليس من أوصافه وأحوالِه، أو مفسرةٌ متعلقةٌ به أو بنذير أو مفعولٌ لمبين وعلى قراءة الفتح بدلٌ من أني لكم نذيرٌ مبينٌ وتعيينٌ لما يوجب وقوعَ المحذورِ وتبيينٌ لوجه الخلاصِ وهو عبادةُ الله تعالى وقوله تعالى: {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} تعليلٌ لموجب النهي وتصريحٌ بالمحذور وتحقيقٌ للإنذار، والمرادُ به يومُ القيامةِ أو يومُ الطوفان، ووصفُه بالأليم على الإسناد المجازي للمبالغةِ، كما في: نهارُه صائمٌ، وهذه المقالةُ وما في معناها مما قاله عليه الصلاة والسلام في أثناء الدعوةِ على ما عُزِي إليه في سائر السور لما لم تصدر عنه عليه الصلاة والسلام مرةً واحدة بل كان يكرّرها عليهم في تلك المدةِ المتطاولةِ على ما نظق به قولُه تعالى: {رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلًا وَنَهَارًا} الآيات... عطفٌ على فعل الإرسالِ المقارِن لها أو القولِ المقدّرِ بعده جوابُهم المتعرِّضُ لأحوال المؤمنين الذين اتبعوه عليه الصلاة والسلام بعد اللتيا والتي بالفاء التعقيبيةِ فقيل: {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ} أي الأشرافُ منهم من قولهم: فلانٌ مليءٌ بكذا أي مُطيقٌ له لأنهم مُلِئوا بكفايات الأمورِ أو لأنهم ملأوا القلوبَ هيبةً والمجالسَ أُبّهةً أو لأنهم مُلئوا بالأحلام والآراءِ الصائبةِ، ووصفُهم بالكفر لذمهم والتسجيلِ عليهم بذلك من أول الأمر لا لأن بعضَ أشرافِهم ليسوا بكفرة: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا} مُرادُهم ما أنت إلا بشرٌ مثلُنا ليس فيك مزيةٌ تخصُّك من دوننا بما تدعيه من النبوة ولو كان كذلك لرأيناه لا أن ذلك محتملٌ ولكن لا نراه وكذا الحالُ في قولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرأى} فالفعلان من رؤية العينِ وقوله تعالى: {إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا} حالٌ من المفعول وكذا قوله: {اتبعك} في موضع الحالِ منه إما على حاله أو بتقدير قد عند من يشترط ذلك، ويجوز أن يكون من رؤية القلبِ وهو الظاهرُ فهما المفعولُ الثاني وتعلُّقُ الرأي في الأول بالمثلية لا بالبشرية فقط، وإنما لم يبتّوا القول بذلك مع جزمهم به وإصرارِهم عليه إراءةً بأن ذلك لم يصدُر عنه جُزافًا بل بعد التأملِ في الأمر والتدبرِ فيه ولذلك اقتَصروا على ذكر الظن فيما سيأتي وتعريضًا من أول الأمرِ برأي المتبعين فكأن قولَهم: {وَمَا نَرَاكَ} جوابٌ عما يرِد عليهم من أنه عليه الصلاة والسلام ليس مثلَهم حيث عاين دلائلَ نبوته واغتنم اتباعُه مَنْ له عينٌ تُبصر وقلبٌ يدرك فزعَموا أن هؤلاء {أراذلُنا} أي أخِسّاؤنا وأدانينا جمعُ أرذلٍ فإنه صار بالغلبة جاريًا مجرى الاسم كالأكبر والأكابر أو جمعُ أرذُلٍ جمعُ رَذْلٍ كأكالِب وأكلُب وكلْب يعنون أنه لا عبرة باتباعهم لك إذ ليس لهم رزانةُ عقل ولا أصالةُ رأيٍ وقد كان ذلك منهم في بادي الرأي أي ظاهرِه من تعمّق، من مَبْدُوّ أو في أوله من البدء والياء مبدلةٌ من الهمزة لانكسار ما قبلها وقد قرأه أبو عمرو بها وانتصابُه على الظرفية على حذف المضافِ أي وقتَ حدوثِ بادي الرأي والعاملُ فيه اتبعك وإنما استرذلوهم مع كونهم أولي الألبابِ الراجحةِ لفقرهم فإنهم لما لم يعلموا إلا ظاهرَ الحياةِ الدنيا كان الأشرفُ عندهم الأكثرَ منها حظًا والأرذلُ من حُرمها ولم يفقَهوا أن ذلك لا يزن عند الله جناحَ بعوضةٍ وأن النعيم إنما هو نعيمُ الآخرة والأشرفُ من فاز به والأرذلُ من حُرمه نعوذ بالله تعالى من ذلك.
{وَمَا نرى لَكُمْ} أي لك ولمتّبعيك فغلّب المخاطَب على الغائبين: {عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} يعنون أن اتباعَهم لك لا يدل على نبوتك ولا يُجديهم فضيلةً تَستتبع اتباعَنا لكم واقتصارَهم هاهنا على ذكر عدمِ رؤيةِ الفضلِ بعد تصريحِهم برذالتهم فيما سبق باعتبار حالِهم السابقِ واللاحقِ، ومرادُهم أنهم كانوا أراذلَ قبل اتباعهم لك ولا نرى فيهم وفيك بعد الاتباع فضيلةً علينا: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين} جميعًا لكون كلامكم واحدًا ودَعْواكم واحدةً، أو إياك في دعوى النبوةِ وإياهم في تصديقِك واقتصارُهم على الظنّ احترازٌ منهم عن نسبتهم إلى المجازفة ومجاراةٌ معه عليه الصلاة والسلام بطريق الإرادة على نهج الإنصاف. اهـ.

.قال الألوسي:

ثم إنه تعالى شرع في ذكر قصص الأنبياء الداعين إلى الله تعالى وبيان حالهم مع أممهم ليزداد صلى الله عليه وسلم تشميرًا في الدعوة وتحملا لما يقاسيه من المعاندين فقال عز من قائل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ} الواو ابتدائية واللام واقعة في جواب قسم محذوف ويقدر حرفه ياء لا واو وإن كان هو الشائع لئلا يجتمع واوان، وبعضهم يقدرها ولا يبالي بذلك.
ونوح في المشهور ابن لمك بن متوشبخ بن إدريس عليه السلام وأنه أول نبي بعث بعده قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بعث عليه السلام على رأس أربعين من عمره ولبث يدعو قومه ما قص الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عامًا؛ وعاش بعد الطوفان ستين سنة وكان عمره ألفا وخمسين سنة.
وقال مقاتل: بعث وهو ابن مائة سنة، وقيل: ابن خمسين، وقيل: ابن مائتين وخمسين ومكث يدعو قومه ما قص سبحانه وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفا وأربعمائة وخمسين سنة: {إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ} بالكسر على إرادة القول أي فقال أو قائلا.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالفتح على إضمار حرف الجر أي ملتبسًا بذلك الكلام وهو: {إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ} فلما اتصل الجار فتح كما فتح في كان، والمعنى على الكسر وهو قولك: إن زيدًا كالأسد بناءًا على أن كان مركبة وليست حرفًا برأسه، وليس في ذلك خروج من الغيبة إلى الخطاب خلافًا لأبي علي، ولعل الاقتصار على ذكر كونه عليه السلام نذيرًا لأنهم لم يغتنموا مغانم إبشاره عليه السلام: {مُّبِينٌ} أي موضح لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص منه.
{أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} أي بأن لا تعبدوا إلا الله على أن: {إن} مصدرية والباء متعلقة: {بأرسلنا} [هود: 25] و: {لا} ناهية أي أرسلناه ملتبسًا بنهيهم عن الإشراك إلا أنه وسط بينهما بيان بعض أوصافه ليكون أدخل في القبول ولم يفعل ذلك في صدر السورة لئلا يكون من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه، وجوز كون: {إن} وما بعدها في تأويل مصدر مفعولا لمبين أي مبينا النهي عن الإشراك، ويجوز أن تكون: {إن} مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير أو بمبين أي أرسلناه بشيء.
أو نذير بشيء أو مبين شيئًا هو: {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} لكن قيل: الانذار في هذا غير ظاهر وهذا على قراءة الكسر فيما مر، وأما على قراءة الفتح فإن: {لا} إلخ بدل من: {إِنِّي لَكُمْ} [هود: 25] إلخ ويقدر القول بعد: {إن} فيكون التقدير أرسلناه بقوله: {إِنّى لَكِنِ نَّذِيرٍ}، وبقوله: {لاَّ تَعْبُدُواْ} فهو بدل البعض أو الكل على المبالغة، وادعاء: {إن} الإنذار كله هو، وجاز أن لا يقدر القول، فالأظهر حينئذ بدل الاشتمال، ومن زعم أنه كذلك مطلقًا إذ لا علاقة بينهما بجزئية أو كلية فقد غفل عن أنه على تقدير القول يكون قوله تعالى: {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} المعلل به النهي من جملة المقول، وهو إنذار خاص فيكون ذلك بعضًا له أو كلا على الادعاء، والظاهر أن المراد باليوم يوم القيامة، وجوز أن يكون يوم الطرفان ووصفه بالأليم أي المؤلم على الاسناد المجازي لأن المؤلم هو الله سبحانه نزل الظرف منزلة الفاعل نفسه لكثرة وقوع الفعل فيه، فجعل كأنه وقع الفعل منه، وكذا وصف العذاب بذلك في غير موضع القرآن العظيم ويمكن اعتباره هنا أيضًا، وجعل الجر للجوار، ووجه التجوز حينئذ أنه جعل وصف الشيء لقوة تلبسه به كأنه عينه فأسنه إليه ما يسند إلى الفاعل، ونظير ذلك على الوجهين نهاره صائم.
وجد جده، وقد يقال: إن وصف العذاب بالإيلام حقيقة عرفية ومثله يعدّ فاعلا في اللغة، فيقال: آلمه العذاب من غير تجوز، قيل: وهذه المقالة وكذا ما في معناها مما قص في غير آية لما لم تصدر عنه عليه السلام مرة واحدة بل كان يكررها في مدته المتطاولة حسبما نطق به قوله تعالى حكاية عنه: {رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلًا وَنَهَارًا} [نوح: 5] الآيات عطف على فعل الإرسال المقارن لها أو القول المقدر بعده جوابهم المتعرض لأحوال المؤمنين الذين اتبعوه بعد اللتيا والتي بالفاء التعقيبية فقال سبحانه: {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ} أي الإشراف منهم وهو كما قال غير واحد من قولهم: فلان مليء بكذا إذا كان قادرًا عليه لأنهم ملئوا بكفاية الأمور وتدبيرها، أو لأنهم متمالئون أن متظاهرون متعاونون، أو لأنهم يملأون القلوب جلالا والعيون جمالا والأكف نوالًا، أو لأنهم مملؤون بالآراء الصائبة والأحلام الراجحة على أنه من الملأ لازمًا، ومتعديًا ووصفهم بالكفر لذمهم والتسجيل عليهم بذلك من أول الأمر لا لأن بعض أشرافهم ليسوا بكفرة.
{مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا} أرادوا ما أنت إلا بشر مثلنا ليس فيك مزية تخصك من بيننا بالنبوة ولو كان ذلك لرأيناه لا أن ذلك محتمل لكن لا نراه، وكذا الحال في: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرأى} فالفعلان من رؤية العين وبشرًا.
واتبعك حالان من المفعول بتقدير قد في الثاني أو بدونه على الخلاف؛ ويجوز أن يكونا من رؤية القلب وهو الظاهر فهما حينئذ المفعول الثاني، وتعلق الرأي في الأول بالمثلية لا البشرية فقط، ويفهم من الكشاف أن في الآية وجهين: الأول أنهم أرادوا التعريض بأنهم أحق بالنبوة كأنهم قالوا: هب أنك مثلنا في الفضيلة والمزية من كثرة المال والجاه فلم اختصصت بالنبوة من دوننا، والثاني أنهم أرادوا أنه ينبغي أن يكون ملكًا لا بشرًا، وتعقب هذا بأن فيه اعتزالًا خفيًا، وقد بينه العلامة الطيبي، ونوزع في ذلك ففي الكشف أن قولهم: {مّثْلُنَا} علية لتحقيق البشرية، وقولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك} إلخ استدلال بأنهم ضعفاء العقول لا تمييز لهم، فجوّزوا أن يكون الرسول بشرًا وقولهم الآتي: {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} تسجيل بأن دعوى النبوة باطلة لإدخاله عليه السلام والأراذل في سلك على أسلوب يدل أنهم أنقص البشر فضلًا عن الارتقاء، وليسس في هذا الكلام اعتزال خفي ولا المقام عنه أبى انتهى.
وفي الانتصاف يجوز أن يكونوا قد أرادوا الوجهين جميعًا كأنهم قالوا: من حق الرسول أن يكون ملكًا لا بشرًا وأنت بشر، وإن جاز أن يكون الرسول بشرًا فنحن أحق منك بالرسالة، ويشهد لإرادتهم الأول قوله في الجواب: {وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ} [هود: 31] ويشهد لأرادتهم القانية: {وَمَا نرى لَكُمْ} إلخ، والظاهر أن مقصودهم ليس إلا إثبات أنه عليه السلام مثلهم وليس فيه مزية يترتب عليها النبوة ووجوب الإطاعة والاتباع، ولعل قولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك} إلخ جاب عما يرد عليهم من أنه عليه السلام ليس مثلهم حيث اتبعه من وفق لاتباعه، فكأنهم قالوا: إنه لم يميزك اتباع من اتبعك فيوجب علينا اتباعك لأنه لم يتبعك: {إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} أي أخساؤنا وأدانينا، وهو جمع أرذل والأغلب الاقيس في مثله إذا أريد جمعه أن يجمع جمع سلامة كالأخسرون جمع أخسر لكنه كسر هنا لأنه صار بالغلبة جاريا مجرى الاسم، ولذا جعل في القاموس الرذل والأرذل بمعنى وهو الخسيس الدنيء، ومعنى جريانه مجرى الاسم أنه لا يكاد يذكر الموصوف معه كالأبطح والأبرق.
وجوز أن يكون جمع أرذل جمع رذل فهو جمع الجمع ونظير ذلك أكالب وأكلب وكلب وكونه جمع رذل مخالف للقياس وإنما لم يقولوا: إلا أراذبنا مبالغة في استرذالهم وكأنهم إنما استرطلوهم لفقرهم لأنهم لما لم يعلموا إلا ظاهرًا من الحياة الدنيا كان الأشرف عندهم الأكير منها حظًا والأرذل من حرمها ولم يفقهوا أن الدنيا بحذافيرها لا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة وأن النعيم إنما هو نعيم الآخرة.